سبب نزول سورة العصر

سبب نزول سورة العصر

تُعدّ سورة العصر من السور المكية القصيرة التي تحمل في ألفاظها القليلة معاني عظيمة، وقيمة زمنية وروحية بالغة، حيث تُعتبر من السور الجامعة التي أوجزت مبادئ الدين وأساسيات السلوك الإنساني في كلمات معدودة، لكنها مُحكمة المعنى وشديدة البلاغة. تتألف هذه السورة من ثلاث آيات فقط، لكنها تعكس مضموناً مركزياً يدور حول قيمة الوقت، وخسارة الإنسان ما لم يتحلّ بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر.

ورغم أن السورة لم يُروَ فيها سبب نزول خاص ومحدد بسند صحيح كما هو الحال في بعض السور الأخرى، فإن العلماء والمفسرين نظروا إلى مضمونها وعمق خطابها ليُبيّنوا أن هذه السورة جاءت كتنبيه وتحذير عام للناس في مكة في وقت كان يغلب فيه الانشغال بالدنيا ومظاهر القوة والجاه على حساب القيم الروحية والأخلاقية. ولذلك، فإنها جاءت لتؤسس مفهوماً توجيهياً شاملاً يوضح خطورة ضياع الوقت دون طاعة أو تقوى، كما تربط بين الإيمان والسلوك والتعاون الإنساني في أسمى صوره.

السياق الزمني والمكاني لنزول السورة

جاءت سورة العصر في المرحلة المكية من الدعوة الإسلامية، وهي مرحلة كان فيها المسلمون في مواجهة شديدة مع الجاهلية وظروف الاضطهاد، وقد كانت مكة آنذاك بيئة يغلب عليها الانشغال بالتجارة، والاعتزاز بالنسب، والانغماس في الشهوات، وتجاهل مصير الإنسان الأخروي. جاءت هذه السورة لتقدم رؤية قرآنية صافية حول طبيعة الحياة الإنسانية من منظور الزمن، ومسؤولية الفرد تجاه نفسه ومجتمعه، مما يدل على أنها كانت بمثابة درس توجيهي للمسلمين الأوائل حول قيمة الوقت في ظل الصراع مع الجاهلية.

مضمون السورة وأبعاده العقدية والأخلاقية

سورة العصر تبدأ بالقسم: ﴿وَالْعَصْرِ﴾، وهو قَسَم من الله تعالى بالزمن، وتحديدًا وقت العصر الذي يُعتبر من أكثر الأوقات تعبّرًا عن انقضاء اليوم واقتراب نهايته، ما يرمز إلى قرب انتهاء الحياة وقيمة كل لحظة فيها. ثم يتبع القسم بيان حتمي وواضح:

﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، أي أن الإنسان عمومًا في حالة خسارة وهلاك، وهذا يشمل كل من لا يلتزم بالشروط الأربعة التالية التي وردت في الآية الأخيرة:

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. هذه الشروط الأربعة تشكل منظومة متكاملة للنجاة من الخسران: الإيمان، العمل الصالح، التواصي بالحق، والتواصي بالصبر.

أثر سورة العصر في المجتمع المكي

كان من المقاصد الكبرى لنزول سورة العصر، وفقًا لرؤية المفسرين، هو زلزلة وعي الإنسان المكي وإيقاظه من غفلته. في بيئة تسود فيها العصبية القبلية والتفاخر بالأموال والأبناء، جاءت السورة لتقدم معيارًا آخر للنجاح والفوز، وهو معيار مرتبط بالإيمان والعمل الصالح والتعاون القيمي.

كما أن في السورة دلالة على أن النجاح الحقيقي لا يتم إلا عبر التكامل الاجتماعي، فالإيمان والعمل لا يكفيان دون أن يكون هناك تواصل مستمر بين الأفراد على أساس من الحق والصبر. هذا المفهوم التكاملي يُظهر السورة على أنها دعوة إلى تأسيس مجتمع مؤمن متعاون ينهض بالقيم الروحية، لا بالمصالح المادية.

تحليل لغوي وبلاغي لآيات السورة

﴿وَالْعَصْرِ﴾: القسم بالزمن، وهو من أعظم المقسومات في القرآن، يعكس أهمية الوقت في الحياة، والارتباط بين الزمن ومصير الإنسان، ويشير إلى أن الإنسان يُحاسب على وقته وكيفية استغلاله.

﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾: جاءت الجملة بأسلوب مؤكد مرتين: “إن” و”اللام”، لإثبات حقيقة الخسران، وهو لا يشمل بعض الناس، بل كل الإنسان، إلا من تحقق فيه ما يلي.

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: استثناء واضح يُظهر أن الأصل في الإنسان أنه خاسر، وأن النجاة مرتبطة بالإيمان.

﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: العمل الذي يوافق شرع الله، ولا يكفي الإيمان دون عمل، بل لا بد من التفاعل الإيجابي مع الحياة.

﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾: التعاون والتناصح حول الحقيقة والعدل، وهي دعوة إلى مقاومة الظلم، والانحراف.

﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾: الصبر هنا يشمل الصبر على الطاعة، وعلى البلاء، وعلى أذى الآخرين، أي أن الاستقامة لا تتم بدون الصبر.

دلالة الترتيب في الآيات

الترتيب في الآية ليس عشوائيًا، بل يعكس تدرجًا منهجيًا في بناء الفرد والمجتمع:

1. يبدأ بالإيمان، وهو الركيزة الأولى للعقيدة.

2. يتبعه العمل الصالح، الذي يثبت حقيقة الإيمان.

3. ثم يأتي التواصي بالحق، وهو انتقال من الفردية إلى الجماعية.

4. وأخيرًا التواصي بالصبر، لأن الاستمرار في الحق يحتاج إلى صبر طويل أمام التحديات.

هذا الترتيب يُظهر عمق البنية القرآنية في توجيه الإنسان، ويؤسس لمجتمع متماسك يقوم على القيم الدينية والأخلاقية.

تفسير السلف وتدبّر الصحابة للسورة

ورد في تفسير الإمام الشافعي قوله: “لو ما أنزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم”. ويُروى أن أصحاب النبي ﷺ كانوا إذا التقوا لا يفترقون إلا بعد أن يتلوا أحدهم هذه السورة على الآخر، لما فيها من التذكير الشامل والكامل بحقيقة الحياة والنجاة.

هذا يدل على أن الصحابة لم ينظروا إلى قِصر السورة، بل إلى عظمة مضمونها. وهذا أحد جوانب الإعجاز القرآني، حيث يجمع بين القِصر في المبنى والغزارة في المعنى.

السورة في ضوء المفهوم الحديث للوقت

في العصر الحديث، حيث يزداد الاهتمام بإدارة الوقت، وتُقدّر القيمة الزمنية بالدقيقة والثانية، تأتي سورة العصر لتُرسّخ هذا المعنى منذ أكثر من 1400 عام. فهي تذكّر الناس أن الوقت ليس مجرد إطار زمني للأنشطة اليومية، بل هو مجال للعمل الأخروي، وأن كل لحظة تمضي دون طاعة لله أو نفع للناس، هي خسارة فعلية.

إن الحديث المتزايد عن “النجاح الشخصي”، “الجدوى الاقتصادية”، “التنمية الذاتية”، يجد في سورة العصر مبدأ أسبق وأشمل: النجاح لا يتم إلا بالرباعية القرآنية التي تنص عليها السورة، فلا جدوى من النجاح الظاهري إن لم يُبْنَ على أساس من الإيمان والأخلاق.

الجدول التالي يُلخص مضمون السورة:

خلاصة في ضوء أسباب النزول وغايات السورة

رغم عدم توفر رواية صريحة ومحددة توضح سبب نزول سورة العصر، إلا أن الإجماع بين العلماء يتمحور حول كونها من السور التي نزلت كموعظة عامة للناس في مكة، تُبيّن لهم ضياع العمر في الغفلة، وتحذّر من خسران النفس والمصير، إلا لمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح والدعوة إلى الخير والتحمّل من أجل ذلك.

إن السورة هي بمثابة “ميثاق أخلاقي وزمني”، تنبه إلى أن الحياة قصيرة مهما طالت، وأن كل لحظة لا تُستثمر في طاعة الله هي خسارة حقيقية، وأن الفلاح الحقيقي هو لمن جمع بين عقيدة راسخة، وسلوك مستقيم، وعلاقة اجتماعية قائمة على النصيحة والتواصي.

المراجع:

• ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار طيبة للنشر والتوزيع.

• الطبري، جامع البيان في تأويل آي القرآن.